البيت العتيق
كانت مكة عندما أتي إليها سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل وأمه هاجر ، أرضا قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ، حيث ترك إبراهيم عليه السلام ، زوجته هاجر مع وليدها إسماعيل في تلك الأرض القاحلة ، استجابة لأمر الله عز وجل ، وفارقهما ودموع الحزن تذرف من عينه ، حيث التجأ إلى مكان لا يرونه فيه قائلا
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون 1
جلست هاجر مع وليدها إسماعيل ، ترضعه وتشرب مما بقي من الماء ، حتى إذا نفد ، عطشت وعطش ابنها ، فجعلت تسعى بين الصفا والمروة {2} علها تجد أحدا وفعلت ذلك سبع مرات عادت بعدها يائسة حزينة كئيبة ، وهي ترى ابنها يذوي كوردة ندية لكن الله عز وجل أغاثها وأغاث ابنها ، عندما انفجر نبع ماء بالقرب منها ، فجعلت تزم الماء {3} وتحوضه ، فشربت وشرب ابنها ، وأرسل الله عز وجل قوما {4} يأنسون إليها وتأنس إليهم ، إلى أن شب إسماعيل عليه السلام ، وتزوج من هؤلاء القوم بامرأتين ، الأولى: كانت عاقة ، فأمره أبوه إبراهيم عليه السلام أن يطلقها بعد أن زراه وأطمأن على أحواله ، والثانية كانت بارة وفية مخلصة ، فأمره أبوه أن يحافظ عليها وبوحى من الله عز وجل ، بنى إبراهيم عليه السلام وإسماعيل البيت العتيق فكان أول مسجد وضع للناس ببكة ، يعبدون الله عز وجل فيه ، ويطوفون حوله ، ويسعون بين الصفا والمروة ، ووقف إبراهيم عليه السلام ، بعد أن تم بناء البيت ، يدعو ربه قائلا
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم 5
واستجاب الله عز وجل لدعاء إبراهيم عليه السلام ، فبعث في أهل مكة نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، رسول الرحمة ، ختم به أنبياءه ورسله ، وأكمل له الدين ما لم يؤت أحدا قبله وعمت دعوته أهل الأرض ، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم ، وكان هذا لفضله عليه الصلاة والسلام ، ولشرفه في نفسه وقومه ، وشرف أرضه التي بعث بها ، وفصاحة لغته ولطفه ورحمته ، وكريم أصله وعظيم مولده وقدره
عام الفيل
أستبد أبرهة الحبشي ، بأمارة اليمين ونصب نفسه أميرا عليها ، بعد أن عصى أوامر ملكه النجاشي ، ملك الحبشة الذي كان يدين بالنصرانية . وأراد أبرهة أن يرضي النجاشي ليصفح عنه زلته ، فبنى كنيسة فائقة الحسن والجال ، لم ير مثلها في يومها ، وكتب أبرهة إلى النجاشي يعلمه: أني بنيت لك كنيسة ، ولن تهدأ نفسي ، ويستقر حالي ، حتى أصرف أنظار العرب عن الحج إلى البيت العتيق ، إلى الحج لكنيسة "القليس" {1} ولما علم العرب بنوايا أبرهة غضبوا ، فدفعت الحمية رجلا من كنانة ، فخرج حتى أتى الكنيسة وأحدث {2} فيها . ثم أخبر أبرهة بما فعل العربي فغضب غضبا شديدا وقال: والله لأسيرن إلى البيت العتيق حتى أهدمه ثم أمر قواده وجنوده أن يتهيؤوا ، استعدادا لهدم البيت العتيق ، وسار أبرهة في مقدمة الجيش الكبير الذي يتقدمه فيل ضخم ، ولما سمعت العرب بذلك ورأت هذا الجيش الجرار الذي يتقدمه فيل ، هابوا {3} لقاءه ، وفزعوا من مرأى الفيل ، إلا أنهم رأوا أن جهاده حق عليهم ، عندما سمعوا بأن أبرهة يريد هدم كعبتهم ، بيت الله الحرام ، لكن محاولات العرب في صد أبرهة ، باءت بالفشل ، إذ انتصر عليهم ، وبات الطريق أمامه مفتوحا إلى مكة المكرمة ، وما إن وصل إلى مشارفها ، حتى بعث من أتى له بأموال وبعير أهل قريش ، وكان منها مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم ، جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان إذ ذاك سيد قريش وزعيمها وبعث أبرهة رسولا إلى عبد المطلب ، ليخبره أنه لم يأت لحرب قريش ، إنما جاء لهدم الكعبة فإن أراد عبد المطلب الحرب ، فالويل له ، وإن لم يرد ذلك فليأت إليه وأعلم عبد المطلب هذا الرسول ، أن قريشا لا تريد الحرب ، وأنها لا طاقة لها على القتال ، فهذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فللبيت رب يحميه وانطلق عبد المطلب إلى أبرهة حيث استقبله استقبالا حافلا وأجلسه إلى جانبه ثم سأله أن يطلب ما يشاء . فقال عبد المطلب حاجتي أيها الملك ، أن ترد علي البعير التي أخذتها . فقال أبرهة متعجبا: والله إنك قد أعجبتي حين رأيتك ، فلما كلمتني بشأن البعير ، انتقصت من قدرك ، أتكلمني بمئتي بعير ، وتترك البيت الذي هو دين آبائك وأجدادك ؟ فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، أما البيت فله رب سيمنعك عنه ، ثم عاد عبد المطلب إلى قومه ، وأمرهم بالخروج إلى شعاب {4} مكة وجبالها وفي الصباح توجه أبرهة إلى مكة ، يريد هدم البيت ، لكن الفيل الذي كان يتقدم الجيش ، أحجم عن التقدم رغم ضربه ونهره ، فإن وجهوه نحو اليمين هرول، وإن وجهوه نحو الكعبة أحجم وتراجع ، عندئذ لقي ابرهة وجيشه جزاءه العادل ، عندما أرسل الله عز وجل طيورا ، تحمل في أرجلها حجارة صغيرة ، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك فولى الجيش هاربا ، لا يلوى على شيء ، أما أبرهة فقد أصيب بالحجارة ، وما إن وصل إلى اليمن حتى فارق الحياة ، وقد ذكر الله عز وجل هذه الحادثة في القرآن الكريم إذ قال
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل *ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول 6
عبادة الأوثان
ضاقت مكة بأبناء إسماعيل عليه السلام وذريته ، فالتمسوا الرزق في بلاد أخرى ، فكان واحدهم لا يرحل عن مكة ، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما له ، فإذا ما استقروا ، وضعوا هذا الحجر فطافوا حوله كطوافهم حول الكعبة ، حتى إذا مرت السنون ، عبدوا ما أعجبهم من هذه الحجارة واستبدلوا بدين إسماعيل عليه السلام ، عبادة هذه الأوثان ، فصاروا أشبه بالأمم السابقة ، وما هم عليه من الضلال والشرك بالله عز وجل ، فإذا طافوا حول الكعبة ، وحدوا الله بالتلبية ثم أدخلوا معه أصنامهم ، يقول الله عز وجل واصفا حالهم
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون 1
ثم إن بعض الرجال ، يدعى- عمرو بن لحي - خرج من مكة إلى بلاد الشام في تجارة له ، فوجد هناك أقواما يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال له: ألا تعطوني صنما ، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل فكان هذا الرجل ، أول من غير دين إسماعيل عليه السلام وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه {2} في النار " ومن بين الأصنام التي عبدوها - العزى - وكان لقريش وبني كنانة ، وكانت أعظمها عندهم ، يزورونها ويهدون لها ، ويقتربون لها بالذبائح ومنها - اللات - وكانت لثقيف بالطائف وهي عبارة عن صخرة مربعة ومنها أيضا - مناة - وكانت للأوس والخزرج ، ومن دان بدينهم من أهل يثرب وغيرها من هذه الأصنام التي صنعوها بأيديهم ، ثم عبدوها ، ألا ساء ما يعبدون ، واعتقدوا أنها تجلب الخير وتمنع الشر ، ولذلك كانوا يتمسحون بها ويتبركون ، حتى إذا بعث الله رسوله محمدا ، صلى الله عليه وآله وسلم ، برسالة التوحيد استنكروا ذلك ، فقال تعالى في وصفهم
أجعل الآلهة إلها واحدا ، إن هذا لشيء عجاب 3
قريش وخدمة البيت
كان القرشيون يولون البيت العتيق اهتماما كبيرا ، وقد استطاع رجل منهم وهو قصي بن كلاب أن يحتكر أمر مكة والعناية بها ، لا بل تملك على قومه فملكوه ، فكانت إليه الحجابة {1} والسقاية {2} والرفادة {3} والندوة {4} واللواء {5} ، فحاز شرف مكة التي قطعها أرباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش ، منازلهم من مكة ولكن قصي بن كلاب هلك ومات ، فاختلف القرشيون فيما بينهم حول أمور خدمة البيت ، لمن تكون الرفادة والسقاية ؟ ولمن تكون الحجابة والندوة واللواء ؟ وطمع بعضهم في أن تكون أمور الكعبة والبيت كلها في حوزته واشتد الخلاف بين القرشيين وكادت تقع حرب طاحنة فيما بينهم ، لولا أن تداعى القوم إلى الصلح ، فاتفقوا على أن يعطوا بني عبد مناف: السقاية والرفادة ، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ، وكانوا بني عبد مناف قد دخلوا في حلف يسمى: حلف المطيبين ، وذلك أنهم غمسوا أيديهم جميعا ، في إناء مملوء بالطيب ، ثم تعاقدوا وتحالفوا ، أما بنو عبد الدار فقد دخلوا في حلف الأحلاف ، وذلك لأنهم عقدوا مع حلفائهم عند الكعبة ، حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا لكن أهم حلف عقده القرشيون قبل الإسلام ، كان حلف الفضول ، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف ، يعقدونه في دار عبد الله بن جدعان ، فاجتمعوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما ، إلا نصروه وقاموا معه ، وفي هذا الحلف يقول رسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم
لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حافا ما أحب أن لي به حمر النعم {6} ولو أدعى به في الإسلام لأجبت
ثم إن الرفادة والسقاية ، انتقلت إلى زعيم من زعماء قريش وهو: هاشم بن عبد مناف ، الذي يعتبر أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف ، وأول من أطعم الثريد بمكة ، وعندما مات هاشم بن عبد مناف ، تولى السقاية والرفادة ، المطلب بن عبد مناف ، الذي كان ذا شرف في قومه وفضل ، وكان هاشم بن عبد مناف ، قد ولد له ولدا سماه: شبية ، وهو الذي أطلق عليه فيما بعد اسم: عبد المطلب والذي عاش في كنف ورعاية عمه المطلب
عبد المطلب وبئر زمزم
أمر عبد المطلب وهو نائم أن يحفر بئر زمزم ، وذلك أن الجراهمة عندما خرجوا من مكة ، دفنوها ، وفي ذلك قال على بن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر {7} إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة {8} قلت: وما الطيبة ؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال: احفر برة {9} قلت: وما برة ؟ قال: ثم ذهب عني ، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة {10} قلت: وما المضنونة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال: احفر زمزم ثم مضى عبد المطلب مع ابنه الحارث ، إلى المكان الذي عين له حاملا معوله ، فحفر فيها ، فلما بدا لعبد المطلب الطي {11} ، كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب ، إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا ، فأشركنا معك فيها فقال: ما أنا بفاعل ، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم ، وبقي أمر السقاية بيد عبد المطلب ، جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نذر عبد المطلب
رزق عبد المطلب بن هاشم ، بعشرة ذكور ، وست إناث فأما الذكور فهم: العباس وحمزة ، وعبد الله ، وأبو طالب وأسمه عبد مناف والزبير ، وهو أكبر أعمام النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، والحارث ، وحجل ، والمقوم ، وضرار ، وأبو لهب {1} واسمه عبد العزى وأما الإناث فهن: صفية ، وأم حكيم البيضاء ، وعاتكة ، وأميمة ، وأروى ، وبرة وكان عبد المطلب بن هاشم ، قد نذر ، حين لقي ما لقي من قريش عند حفر زمزم ، لئن رزقه الله بعشرة ذكور ، ثم كبروا وبلغوا معه حتى يذودوا {2} عنه ، ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة ، فلما بلغ عددهم عشرة ، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء لله ، فأطاعوه ، وقالوا: امض يا أبانا إلى ما نذرت له ، ولكن ماذا نصنع ؟ وأينا ستختار ليكون الذبيح ؟ فقال عبد المطلب: ليأخذ كل رجل منكم قدحا {3} ، ثم يكتب فيه اسمه ، ثم ائتوني ففعلوا ما أمرهم به والدهم ، فدخل بهم على هبل {4} ، في جوف الكعبة ، وكان هبل على بئر في جوف الكعبة ، وهي البئر التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة ثم دخل عبد المطلب على صاحب القداح وقال له بعد أن أخبره بنذره الذي نذر : اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ، فلما أخذ صاحب القداح ، القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله ، ألا يخرج القدح ، على عبد الله ، لأنه كان أصغر بنيه ، وأحبهم إليه ، ثم ضرب صاحب القدح ، فخرج القدح على عبد الله ، فأخذه عند المطلب بيده وأخذ معه سكينا ، ثم ذهب به إلى إساف ونائلة {5} ليذبحه ، فمنعته قريش وقالوا له: والله لن تذبحه ، لئن فعلت هذا ، لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه ، ولكن إن كان فداؤه بأموالنا فديناه ، عندئذ لجؤوا إلى القداح ، كعادتهم قبل أن يفعلوا أي شيء ، فقربوا عبد الله وعشرا من الإبل {6} ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، ثم ضربوا ، فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل إلى أن بلغت الإبل مئة ، ثم ضربوا فخرج القدح على اللإبل فقالت قريش: قد انتهى رضا ربك يا عبد الله
زواج عبد الله
فرح عبد المطلب بنجاة ابنه عبد الله ، فخرج آخذا بيده ، إلى أن مر بوهب بن عبد مناف بن زوهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا ، وكان له بنت اسمها آمنة ، فخطبها عبد المطلب لابنه عبد الله ، وهى يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وشرفا ، فكان زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب ، أعظم زواج في تاريخ البشرية ، لأنه أنجب خير البشرية جمعاء ، محمدا بن عبد الله بن عبد المطلب ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أوسط قومه نسبا ، وأعظمهم شرفا من قبل أبيه وأمه ، صلى الله عليه وآله وسلم
فجر الهدى
بعد أن تم زواج عبد الله بن عبد المطلب ، من آمنة بنت وهب ، حملت آمنة بعد أشهر من زواجها ، بأشرف الخلق ، وخير الناس ، وقد حصل لها بعد حملها ، أمور عجيبة ، وها هى آمنة ، أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحدثنا فتقول: أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقيل لي: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا ولد فقولي: أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، ثم سميه محمدا ، ولم يكن هذا الاسم معروفا في الجاهلية ، إلا أن ثلاثة من الرجال ، عزموا على تسمية أولادهم بهذا الاسم المبارك ، عندما سمعوا بقرب ولادة الرسول المنتظر ، طمعا بأن يكون أحدهم النبي المبعوث
ولادة خاتم الأنبياء
حليمة السعدية
استرضع عبد المطلب ، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، امرأة من بني سعد بن بكر ، يقال لها: حليمة ابنه أبي ذؤيب ، وهو عبد الله بن الحارث أما والد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في الرضاعة ، فهو: الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة بنت الحارث ، المعروفة بالشيماء ولنترك الآن حليمة السعدية ، تروي لنا ما أصابها وقومها من الخير ، بعد تسلمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تقول حليمة: خرجت من بلدي مع زوجي ، وابن لي صغير ، نلتمس الرضعاء ، في سنة شهباء {1} ، لم تبق لنا شيئا ، ومعنا شارف {2} لنا ، والله ما تبض {3} بقطرة ، وما ننام ليلنا من صبينا الذي معنا ، من بكائه من الجوع ، وما في ثديي ما يشبعه ، وما في الشارف ما يغذيه حتى وصلنا إلى مكة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتأباه ، إذا قيل لها: إنه يتيم ، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول: يتيم !! وما عسى أن تصنع أمه وجده ! فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا إلا أنا فلما نوينا الانطلاق قلت لزوجي
والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ، ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه فقال زوجي: لا عليك أن تفعلي ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت حليمة إلى ذلك اليتيم صلى الله عليه وآله وسلم فأخذته ، وما حملها على أخذه إلا أنها لم تجد غيره وتقول حليمة السعدية: فلما أخذته ، رجعت إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري ، أقبل عليه ثديي بما شاء من لبن {4} ، فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه {5} حتى روي ، ثم ناما ، وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفنا ، فإذا إنها لحافل {6} ، فحلب منها ما شرب ، وشربت معه حتى شبعنا ، فبتنا بخير ليلة ، إلى أن أصبحنا ، فقال زوجي: اعلمي يا حليمة ، لقد أخذتنا نسمة مباركة ، ثم ركبت حماري ، وحملت اليتيم معي ، فأسرع الحمار حتى إنني سبقت صواحبي كلهن ، إلى أن وصلنا إلى منازلنا من بلاد بني سعد ، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب {7} منها فكانت غنمي تعود ، حين قدمنا به معنا شباعا ، قد امتلأ ضرعها لبنا ، فنحلب ونشرب ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم أسرحوا بأغنامكم ، حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب ، فتعود أغنامهم جياعا لا تحلب قطرة لبن ، وتعود أغنامي شباعا ، تدر لبنا كثيرا ، ولم تزل البركة والخير ، تحفان بناحتى مضت سنتان ، عندئذ فصلته {8} ، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنيه ، حتى كان غلاما جفرا {9} ، صلى الله عليه وآله وسلم وتقول حليمة السعدية: فعدت به إلى أمه صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أحرص شيء على بقائه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، ولم أزل أكلم أمه في أن تبقيه عندي ، حتى رضيت فرجعنا به ، وبعد أشهر ، أتانا أخوه يشتد {10} فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاه ، فشقا بطنه ، فخرجت أنا وأبوه نحوه ، فوجدناه قائما منتفعا {11} وجهه ، فأحطناه وقلنا له: مالك يا بني قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاني وشقا بطني ، فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو وتقول حليمة السعدية: قال لي أبوه {12} : يا حليمة ، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب ، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به فأحتمله ، فقدمت به على أمه فقالت: ما الذي جاء بك يا حليمة ، وقد كنت حريصة عليه ، وعلى بقائه عندك فقلت قد أديت واجبي ، وتخوفت الأحداث ، فأعدته إليك كما تحبين ، فقالت آمنة: ما هذا شأنك ، فاصدقيني خبرك ، فأخبرتها ، فقالت أفتخوفت عليه الشيطان ؟ والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لابني لشأن ، فقد رأيت حين حملت به ، أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصري من أرض الشام ، ثم حملت به ، فوا لله ما رأيت من حمل قط كان أخف عليه ولا أيسر منه ، ووقع حين ولدته ، وإنه لواضع يديه بالأرض ، رافع رأسه إلى السماء ، دعيه عنك وانطلقي راشدة
ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأثنين ، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وفي العام الذي غزا فيه أبرهة الأشرم مكة ، يريد هدم بيتها المعظم ، والذي سمي بعام الفيل ، وكان أهل الكتاب من يهود ونصارى ، يعلمون بقرب ولادة الرسول الذي بشر به ، ولذلك يقول حسان بن ثابت ، رضي الله عنه : والله إني لغلام يفعه {1} ، ابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل {2} كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطعمة {3} بيثرب : يا معشر اليهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا له : ويلك مالك ؟ قال طلع الليل نجم أحمد الذي ولد به وكانت أمه عندما حملت به صلى الله عليه وآله وسلم قد رأت نورا خرج منها ، رأت به قصور بصرى ، من أرض الشام ، فأرسلت إلى جده عبد المطلب وكان ابوه صلى الله عليه وآله وسلم ، قد مات ، وأم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حامل به ، فلما حضر جده ، قالت آمنة : إنه ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل لها فيه ، وما أمرت به أن تسميه فرح عبد المطلب بحفيده ، فقام فضمه إلى صدره وسماه محمدا ، وأخذه فدخل به الكعبة ، فقام يدعو الله ، ويشكر له ما أعطاه ، ثم طلب له المرضعات ، كي يرضعنه ، جريا على عادة اتبعها العرب في إرسال أولادهم إلى البادية ، ليكتسبوا القوة والفصاحة والمنعة